فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المؤلف: ولا يعارض هذا ما في التنزيل والحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها والله أعلم.
وقيل في صغائر اقترفها، وقيل كبائر بينه وبين الله تعالى اجترحها، وأما ما كان بينه وبين العباد فلابد فيها من القصاص بالحسنات والسيئات على ما يأتي، وقيل: ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه ويدخل تحت كسبه، ويثبت في نفسه وإن لم يعلمه، وهذا اختيار الطبري والنحاس وغير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسرًا لقوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة والله أعلم.
وقد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة، وآي القرأن والحمد لله.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة، وهذا مأخوذ من حديث النجوى، ومن قوله عليه السلام: «يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة» خرجه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة]، وروى [من ستر على مسلم عورته، ستر الله عورته يوم القيامة، قال أبو حامد: فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم واحتمل في حق نفسه تقصيرهم. ولم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس ولم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه، فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة.
فصل:
وفي قوله: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والعرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم:
ولا يرهب ابن العم ما عشت ** صولتي ولا أختشى من روعة المتهدد

وإني متى أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

قال ابن العربي: إنه كذلك عند العرب، وأما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبدًا خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقابًا، فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع، وهو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد والوعيد عامة فخصصتها الشريعة، وبينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر، كقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم الآية وكقوله تعالى: {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو} وبالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه وسلم ومن شاء من الخلق من بعده. اهـ.

.تفسير الآيات (37- 39):

قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر، قال تعالى: {ولا تمش} أي مشيًا ما، وحقق المعنى بقوله تعالى: {في الأرض} أي جنسها {مرحًا} وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق، ولذلك علله بقوله تعالى: {إنك لن تخرق} أي ولو بأدنى الوجوه {الأرض} أي تقطعها سيرًا من مكانك إلى طرفها {ولن تبلغ} أي بوجه من الوجوه {الجبال طولًا} أي طول الجبال كلها بالسير فيها، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل؛ ثم عظم جميع ما مضى من المنهيات وأضداد المأمورات بقوله تعالى: {كل ذلك} أي الأمر البعيد من المكارم {كان} أي كونًا غير مزايل.
ولما كانت السيئة قد صارت في حكم الأسماء كالإثم والذنب وزال عنها حكم الصفات، حملها على المذكر ووصفها به فقال تعالى: {سيئه} وزاد بشاعته بقوله تعالى: {عند ربك} أي المحسن إليك إحسانًا لا ينبغي أن يقابل عليه إلا بالشكر {مكروهًا} أي يعامله معاملة المكروه من النهي عنه والذم لفاعله والعقاب، والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه حياء منه، فإن لم يكن فخوفًا من قطع إحسانه، وخضوعًا لعز سلطانه، ويجوز أن يكون المراد بهذا الإفراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى أنه لا يقدر أحد غيره على امتثال هذا المعنى على ما ينبغي، لأنه لا يعلم أحد العلم على ما هو عليه سواء، ولأن الرأس إذا خوطب بشيء كان الأتباع له أقبل وبه أعنى.
ولما تمت هذه الأوامر والزواجر على هذا الوجه الأحكم والنظام الأقوم، أشار إلى عظيم شأنه ومحكم إتقانه بقوله على طريق الاستئناف، تنبيهًا للسامع على أن يسأل عنه: {ذلك} أي الأمر العالي جدًا {مما أوحى} أي بعث في خفية {إليك ربك} أي المحسن إليك {من الحكمة} التي لا يستطاع نقضها ولا الإتيان بمثلها من الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر، ومن حكمة هذه الأشياء المشار إليها من الأوامر والنواهي أنها لم تقبل النسخ في شريعة من الشرائع، بل كانت هكذا في كل ملة.
ولما بين أن الجهل سبب لكل سوء، وكان الشرك أعظم جهل، أتبعه- ليكون النهي عنه بدءًا وختامًا، دلالة على فرط شناعته عطفًا على ما مضى من النواهي- قوله تعالى: {ولا تجعل} أو يقدر له ما يعطف عليه نحو: فالزمه ولا تجعل {مع الله} أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله {إلهًا}.
ولما كانوا لتعنتهم ربما جعلوا تعداد الأسماء تعدادًا للمسميات كما ورد في سبب نزول {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} قال تعالى مع إفهام المعية للغيرية: {ءاخر} فإن ذلك أعظم الجهل الذي نهى عن قفوه {فتلقى} أي فيفعل بك في الآخرة في الحبس {في جهنم} من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عالٍ، حال كونك {ملومًا} أي معنفًا على ما فعلت بعد الذم {مدحورًا} أي مطرودًا بعد الخذلان، فهذان الوصفان أشنع من وصفي الذم والخذلان في الآية الأولى كما هي سنته تعالى أن يبدأ بالأخف تسليكًا لعباده، وإنما كان الشرك أجهل الجهل لأن من الواضح أن الإله لا يكون إلا واحدًا بالذات فلا ينقسم، وبالاعتبار فلا يجانس؛ وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها {لا تجعل مع الله إلهًا ءاخر} وهي عشر آيات في التوراة، جعل فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء، وحك بيافوخه السماء، ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضلُّ من النَّعَم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المرح شدة الفرح يقال: مرح يمرح مرحًا فهو مرح، والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشيًا يدل على الكبرياء والعظمة.
قال الزجاج: لا تمش في الأرض مختالًا فخورًا ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} [الفرقان: 63] وقال في سورة لقمان: {واقصد في مَشْيِكَ واغضض مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وقال أيضًا فيها: {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
المسألة الثانية:
قال الأخفش: ولو قرئ: {مَرَحًا} بالكسر كان أحسن في القراءة.
قال الزجاج: مرحًا مصدر ومرحًا اسم الفاعل وكلاهما جائز، إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد، تقول جاء زيد ركضًا وراكضًا فركضًا أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل، ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض، ثم ذكروا فيه وجوهًا: الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفًا عاجزًا فلا يليق به التكبر.
الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها.
وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي:
ثم قال تعالى: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الأكثرون قرؤا {سيئة} بضم الهاء والهمزة وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {سيئة} منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين:
الوجه الأول:
قال الحسن: إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضها ونهى عن بعضها، فلو حكم على الكل بكونه سيئة لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز، أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام.
والوجه الثاني:
أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئة لوجب أن يقال: إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال: {مَكْرُوهًا} أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروهًا، وحينئذ يستقيم الكلام.
أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: فيها وجوه: الأول: أن الكلام، تم عند قوله:
{ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35] ثم ابتدأ وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَلاَ تَمْشِ في الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37].
ثم قال: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ} والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها.
والثاني: أن المراد بقوله: {كُلُّ ذلك} أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم.
وأما قوله: {مَكْرُوهًا} فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهًا: الأول: التقدير: كل ذلك كان سيئة وكان مكروهًا.
الثاني: قال صاحب الكشاف: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه.
ألا ترى أنك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث.
الثالث: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كل ذلك كان مكروهًا وسيئة عند ربك.
الرابع: أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر.
المسألة الثانية:
قال القاضي: دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى، والمكروه لا يكون مرادًا له، فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى.
وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال: المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها، وأيضًا معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها، لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر، وأيضًا فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهيًا عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار.
والجواب عن الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال: إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال.
والجواب: أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريدًا فكذلك أيضًا موصوف بكونه كارهًا.
وقال أصحابنا: الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم، والله أعلم.
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعًا من التكاليف.
فأولها: قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} [الإسراء: 22] وقوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23] مشتمل على تكليفين: الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع ثلاثة.